بيت الشَعر في بادية الجزيرة السورية: الهوية المحمولة على الأكتاف

في عمق البوادي والسهول الممتدة بين الحسكة والرقة ودير الزور، ينهض بيت الشَعر – أو الخيمة العربية – كأحد أبرز الرموز الحية للهوية البدوية في شمال وشرق سوريا. لم يكن بيت الشَعر مجرد مأوى يحمي أهله من حر الصيف وبرد الشتاء، بل مؤسسة اجتماعية متنقلة، وفضاء ثقافي يجمع المجالس والولائم والشعر والأفراح، عبر قرون طويلة.

صناعة البيت

تُنسج الخيمة من وبر الإبل وصوف الأغنام، في عملية يدوية مضنية تتوارثها النساء جيلاً بعد جيل. تبدأ الرحلة بغزل الخيوط، ثم حياكة قطع كبيرة تُثبت لاحقاً على أوتاد خشبية قوية، وتشدها الحبال المحكمة لتقاوم الرياح والغبار. ويستغرق إعداد خيمة كاملة عدة أسابيع، ما يجعلها ثمرة صبرٍ ومهارة جماعية.

الشكل والوظيفة

يتراوح طول الخيمة التقليدية بين 8 و14 متراً، وعرضها نحو 5 أمتار أو أكثر تبعاً لحجم الأسرة. اللون الغالب هو الأسود الموشى بخطوط بيضاء أو رمادية، يجمع بين الجمال والعملية: فهو يمتص حرارة الشتاء، ويصد شمس الصيف.
وتنقسم الخيمة إلى قسمين رئيسيين:

  • المربوعة (المضافة): مخصصة لاستقبال الضيوف، وهي القلب النابض للخيمة، تُفرش بالسجاد والبسط، وتُقام فيها المجالس وشرب القهوة وتبادل الأخبار.
  • الحرم (أو المحرم): مخصص للنساء وأفراد الأسرة، ويضم أدوات المعيشة اليومية، ومكان النوم والطهي، في تجسيدٍ لقيمة الخصوصية واحترامها.

رمز الضيافة والكرم

ارتبط بيت الشَعر ارتباطاً وثيقاً بالكرم العربي، حتى عُدَّ من غير اللائق أن يمر ضيف أو قافلة بجوار خيمة دون دعوة كريمة للدخول. كانت النار توقد أمام الخيمة كإشارة لاستعداد أصحابها لاستقبال الغرباء، يرافقها القول المتوارث: النار للنار، والقهوة جاهزة، والضيف ضيف الله.”
القهوة، برمزيتها العميقة، كانت تُعد بعناية وتُقدَّم في فناجين صغيرة، ورفضها يُعد إهانة. أما صوت دقّ النجر لطحن الهيل فكان إعلاناً بقدوم ضيف جديد.

أدوار اجتماعية وثقافية

لم يكن بيت الشَعر بيتاً عادياً، بل شكّل محوراً أساسياً في الحياة البدوية:

  • محكمة عشائرية: تُحسم فيها الخلافات وقضايا الشرف والدم.
  • منصة شعرية: ينشد فيها الشعراء قصائدهم النبطية ويتبارزون بالكلمات.
  • مدرسة تربوية: يتعلم فيها الأبناء أصول اللغة العربية، والتاريخ القبلي، وقيم الفروسية.
  • ساحة احتفالية: تقام فيها الأعراس، وحفلات العرضة والسامر، ومجالس الذكر.

حضور معاصر

رغم تراجع الخيام كبيوت دائمة مع انتشار العمران الحديث، إلا أنها ما تزال تُنصب اليوم في:

  • المهرجانات الثقافية بالجزيرة السورية، كرمز للأصالة.
  • الأعراس والولائم الكبرى، حيث تُعد علامة للفخر بالتراث.
  • الاجتماعات القبلية، خصوصاً في مناطق مثل تل حميس والهول والشّدادي والسبعة وأربعين والقحطانية.
    ويحرص البدو حتى اليوم على تعليم أبنائهم مهارة نصب الخيمة وحياكتها، باعتبارها جزءاً من الهوية.

الخيمة كرمز إنساني

يرمز بيت الشَعر إلى الحرية، فلا جدران تحده ولا حدود تقيده. يمكن نقله حيثما حلّ أصحابه، ليغدو وطناً محمولاً على الأكتاف، وفضاءً رحباً يجمع العائلة على قيم البساطة والتكافل. كما يجسد روح التعايش، إذ كان البدو يستقبلون الغرباء دون السؤال عن أصلهم أو دينهم، إيماناً بقاعدة راسخة: الضيف لا يُسأل.”

خلاصة

يبقى بيت الشَعر في شمال وشرق سوريا أكثر من مجرد مأوى بدوي؛ إنه مرآة لقيم إنسانية عميقة، ورمز للانتماء والكرامة، وذاكرة حية لحكايات الصحراء والرحيل والضيافة. في نسيجه المتين تختبئ قصة الصمود والبساطة التي ميّزت الإنسان العربي البدوي، لتظل الخيمة عنواناً للأصالة والهوية مهما تغيّرت الأزمنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *