المقدمة
تُعد كنيسة مار يعقوب النصيبيني من أبرز المعالم الدينية والتراثية في مدينة القامشلي، بل وأول كنيسة تُشيّد فيها في عشرينيات القرن الماضي، ارتبط تأسيسها بمرحلة تاريخية مفصلية، إذ جاءت استجابةً لحاجة مجتمع السريان النازحين من مدينة نصيبين التاريخية، إثر المجازر التي ارتكبها العثمانيون عام 1915 والمعروفة باسم “سيفو”، والتي استهدفت السريان الآشوريين والأرمن على حد سواء، حدث فيها إعجوبة فيض الزيت التي كانت حديث مدينة القامشلي آنذاك.
التأسيس والبعد التاريخي
مع وصول الناجين إلى مدينة القامشلي الناشئة على الحدود السورية-التركية، شكّلت الكنيسة أول مؤسسة دينية–اجتماعية يبادر السريان إلى تشييدها. غدت رمزاً لهويتهم الجمعية، ومرجعية ثقافية وروحية حافظت على تواصلهم مع الجذور التاريخية والحضارية لنصيبين.
وقد حملت الكنيسة اسم القديس مار يعقوب النصيبيني، أسقف نصيبين ومؤسس أول مدرسة لاهوتية في العالم المسيحي. تلك المدرسة التي جمعت بين الفلسفة والطب والعلوم الدينية، وأسست لنهضة فكرية كبرى في المشرق.
دلالات رمزية ومعمارية
الكنيسة بُنيت على الطراز السرياني التقليدي، جامعاً بين البساطة والرمزية، مع زخارف وأيقونات عكست الخصوصية الروحية للمجتمع السرياني. ومنذ نشأتها، شكّلت حجارتها سجلّاً حياً يحفظ ذاكرة الناجين، وصلوات المهجّرين، وتطلعات جيل جديد حافظ على الإيمان والتراث في مواجهة التحديات.
المقبرة الكنسية ودلالاتها
تضم كنيسة مار يعقوب النصيبيني في حرمها الداخلي مقبرة خاصة بالآباء الكهنة والإكليروس والباحثين السريان الذين خدموا الكنيسة ووقفوا حياتهم على خدمة الطائفة وحفظ تراثها. وقد دُفن في هذه المقبرة عدد من الشخصيات الكنسية المرموقة التي تركت بصمة واضحة في تاريخ الكنيسة المحلي، منهم:
- الخوري ملكي: أحد أوائل الكهنة الذين تولّوا خدمة الكنيسة منذ تأسيسها، وعُرف بإخلاصه في رعاية الجماعة السريانية الناشئة في القامشلي.
- الخوري شمعون إبراهيم: كاهن بارز في حياته الروحية والرعوية، كان له دور في تنشيط الحياة الكنسية والوعظية في أبرشية الجزيرة والفرات.
- الأرخدياقون لحدو إسحاق: شخصية دينية وباحث سرياني، عُرف بمساهماته الفكرية والروحية، وبتكريس حياته للحفاظ على التراث السرياني وخدمة الكنيسة.
إن وجود هذه المقبرة في صحن الكنيسة يضفي على المكان بعداً روحياً ورمزياً خاصاً، إذ لا تقتصر وظيفته على العبادة والأنشطة المجتمعية، بل يمتد ليكون شاهداً على مسيرة رجال الدين والباحثين الذين حملوا رسالة الكنيسة جيلاً بعد جيل. كما تُجسّد هذه المقبرة مبدأ الذاكرة الحيّة، حيث يظل المدفونون فيها جزءاً من وجدان الجماعة السريانية، وحلقة وصل بين الماضي والحاضر.
الدور المؤسسي والكنسي
تُعد كنيسة مار يعقوب النصيبيني المقرّ الرسمي لمطرانية السريان الأرثوذكس في مدينة القامشلي، وتشكل بذلك المرجعية الكنسية العليا للطائفة في المنطقة. وإلى جانب وظيفتها الدينية والروحية، تحتضن الكنيسة مجموعة من المؤسسات التابعة للكنيسة السريانية، والتي تعكس غنى الحياة التنظيمية والثقافية والاجتماعية للمجتمع المحلي، من أبرزها:
- الفوج الكشفي الرابع للسريان الأرثوذكس بالقامشلي: مؤسسة شبابية تهدف إلى تنشئة جيل ملتزم بالقيم الروحية والوطنية، وتعزيز روح الانضباط والعمل الجماعي.
- مركز التربية الدينية: يختص بتعليم الأجيال الناشئة أصول العقيدة السريانية الأرثوذكسية، واللغة السريانية، فضلاً عن إحياء التراث الروحي والثقافي.
- لجنة الرها: لجنة كنسية–ثقافية تعمل على تنظيم النشاطات الاجتماعية والتعليمية المرتبطة بالكنيسة، وتُسهم في تعزيز الفلكلور والتراث السرياني.
- لجنة السامري الصالح: لجنة ذات طابع إنساني–خيري، تُعنى بمساعدة الفقراء والمتضررين، وتقديم الدعم للعائلات المحتاجة، خاصة في أوقات الأزمات.
الخاتمة
إن كنيسة مار يعقوب النصيبيني في القامشلي ليست مجرد بناء ديني أثري، بل هي رمز حيّ لاستمرارية الوجود السرياني في المنطقة، وجسر يربط الماضي بالحاضر. فهي تجسد الدور التكاملـي للمؤسسات الدينية في الجمع بين العبادة والتعليم والخدمة الاجتماعية والحفاظ على التراث، ضمن مدينة عُرفت تاريخياً بتنوعها وتعايش مكوناتها. وهكذا، تبقى الكنيسة شاهداً على النكبة والنهضة معاً، وعلى إصرار مجتمع بأكمله على التمسك بجذوره وسط تقلبات التاريخ.




اترك تعليقاً