المقدّمة
تُعدّ مدينة القامشلي، الواقعة في أقصى شمال شرق سوريا، فضاءً متعدّد الثقافات والأديان والإثنيات، شكّلت عبر تاريخها الحديث نموذجاً للتنوّع الاجتماعي والحضاري. ومن أبرز معالم هذا التنوع تجاربها الثقافية والفنية، ومنها دور السينما التي لعبت دوراً محورياً في الحياة العامة، خصوصاً في منتصف القرن العشرين. في هذا السياق، تبرز سينما حدّاد كأحد المعالم الثقافية البارزة التي مثّلت نافذة لأبناء المدينة على العالم، ومختبراً للتفاعل الاجتماعي بين مكوناتها المختلفة.
التأسيس والنشأة
تأسّست سينما حدّاد في خمسينيات القرن العشرين على يد عائلة حدّاد، وهي عائلة سريانية مسيحية عُرفت بمكانتها التجارية والثقافية في القامشلي. وقد شُيّد المبنى في الحي الغربي من سوق المدينة القديمة، بهندسة معمارية بسيطة تقليدية، تتألف من صالة عرض واسعة ومدرّجات خشبية أو معدنية، إضافة إلى غرفة مخصّصة لجهاز العرض الخلفي. أما الواجهة الأمامية فقد تزيّنت على الدوام بملصقات الأفلام العربية والهندية، ما منح المكان حيوية وارتباطاً بصرياً يومياً مع روّاد السوق والمارة.
البنية المادية والتقنية
رغم محدودية الإمكانات، وفّرت السينما بيئة مشاهدة جماعية متكاملة. فالتجهيزات لم تتضمن وسائل ترفيه متطورة كتكييف الهواء، بل اعتمدت على النوافذ والمراوح للتهوية. ومع ذلك، ظلّت التجربة السينمائية التي تقدمها تحمل طابعاً احتفالياً واجتماعياً، يتجاوز البساطة التقنية إلى قيمة المشاركة الجماعية.
البرمجة والعروض
تميّزت برمجة سينما حدّاد بتنوّع لافت:
- الأفلام العربية: خصوصاً تلك المرتبطة بـ”زمن الطرب الجميل”، من إنتاجات عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، صباح، وأم كلثوم، وهو ما لبّى ذائقة رومانسية وشعبية واسعة.
- الأفلام الهندية: احتلت مكانة خاصة في برامج العرض، مع بروز أسماء مثل راج كابور وأميتاب باتشان، حيث مثّلت تلك الأفلام مزيجاً من الدراما والرقص والموسيقى، ما انسجم مع حساسية الجمهور المحلي للتعبير العاطفي.
- الأفلام الأجنبية (الأوروبية والأميركية): وإنْ كان حضورها محدوداً، فإنها عكست انفتاحاً نسبياً على الثقافات الأخرى، وجعلت من السينما نافذة على العالم البعيد.
الدور الاجتماعي والثقافي
شكّلت سينما حداد فضاءً حضارياً للقاء المكونات المختلفة من كرد، عرب، سريان، أرمن وآشوريين. هذا التلاقي، عبر التجربة الجماعية لمشاهدة فيلم واحد، أسّس لشعور ضمني بالانتماء المشترك والمواطنة الجامعة. وفي بعض المناسبات، تحوّلت السينما إلى منبر ثقافي عبر تنظيم أمسيات شعرية وعروض مسرحية محلية، مما عزّز موقعها كجزء من المشهد المدني والثقافي للمدينة.
التراجع والإغلاق
مع مطلع الثمانينيات، دخلت السينما مرحلة تراجع ملحوظ، بفعل عوامل متشابكة:
- انتشار التلفزيون داخل البيوت.
- شيوع أجهزة الفيديو كاسيت.
- غياب الاستثمار الثقافي الرسمي.
- تصاعد موجة الهجرة، خصوصاً بين العائلات المسيحية، التي كانت تمثّل إحدى ركائز الحياة الاقتصادية والثقافية في القامشلي.
هذه العوامل أدّت إلى تآكل جمهور السينما تدريجياً، حتى أُغلقت أبوابها نهائياً في أواخر الثمانينيات أو مطلع التسعينيات.
الأثر والذاكرة
اليوم، يقف مبنى سينما حدّاد مهجوراً ومغبرّاً، لكنّه يظلّ حيّاً في ذاكرة أبناء القامشلي الذين عاصروا زمنها الذهبي. فهي تمثل رمزاً للزمن الجميل وللتنوّع الطبيعي الذي كان سائداً في المدينة. إن إعادة إحياء مثل هذا المعلم لا تقتصر على استعادة وظيفة ترفيهية، بل تشكّل إعادة اعتبار故 لذاكرة المدينة، وتجسيداً لفرص التلاقي والتسامح في حاضرها ومستقبلها.
الخاتمة
إن دراسة تجربة سينما حدّاد هي محاولة لإبراز الدور الذي لعبته السينما كأداة للتقارب الاجتماعي والثقافي في مدينة متعدّدة الهويات مثل القامشلي. ومن هنا تبرز أهميتها كموردٍ تراثي ومعلم حضاري يستحق التوثيق والحفاظ، بوصفه جزءاً من الذاكرة الجمعية للمدينة ولمنطقتها ككل.


اترك تعليقاً