الشركس في سوريا: سردية تراثية عن الهجرة والثقافة والتجذر

هذه المادة التوثيقية تأتي ضمن مشروع حكايات عتيقة الذي تنفذه منظمة تدمرتو بدعم من ديموس

يشكل الشركس أحد الشعوب القوقازية العريقة، التي تنتمي إلى نسيج حضاري غني، يتميز بجذورٍ ضاربة في عمق تاريخ شمال القوقاز. عُرف الشركس عبر التاريخ بثقافتهم المتمايزة، ونظامهم الاجتماعي الصارم، وفنونهم التقليدية الرفيعة. غير أن القرن التاسع عشر كان مفصلياً في مصيرهم، حين أجبروا على مغادرة موطنهم الأصلي إثر النزاع الطويل مع الإمبراطورية الروسية، والذي بلغ ذروته عام 1864، حين انتهت حرب القوقاز بتهجير جماعي لشعب الشركس.

الهجرة القسرية والاستقرار في المشرق

عقب الحرب، تعرض الشركس لتهجير قسري واسع، حيث تم دفعهم قسراً إلى أراضي الدولة العثمانية. الرحلة من الجبال القوقازية إلى الموانئ العثمانية عبر البحر الأسود كانت مأساوية، حيث فقد الآلاف أرواحهم بسبب الجوع والمرض وظروف الترحيل القاسية. ومع ذلك، استطاع الناجون أن يعيدوا بناء حياتهم في مواطن جديدة، حملوا إليها ثقافتهم وتقاليدهم وذاكرتهم الجماعية.

في سوريا، كانت الأرض التي استقبلتهم مليئة بالتحديات والفرص. فقد وفدت أولى موجات الشركس مع نهاية القرن التاسع عشر، واستقروا في مناطق متفرقة بتسهيلات من الدولة العثمانية، أبرزها:

  • دمشق: حيث أنشأوا حي الشركس الذي احتفظ بطابعهم العمراني والاجتماعي الخاص.
  • ريف القنيطرة: في قرى مثل بئر عجم وعين زيوان.
  • ريف حمص: لا سيما في تلبيسة والرستن.
  • مدينة حلب: التي احتضنت جالية شركسية نشطة تجاريًا واجتماعياً

الأسلحة: رمز الفروسية والشرف

لطالما ارتبطت الأسلحة التقليدية في الثقافة الشركسية بقيم الفروسية، والشجاعة، والانضباط الأخلاقي. لم تكن هذه الأدوات مجرد وسائل قتال، بل عناصر رمزية تعكس مكانة الفرد في مجتمعه، وتُظهر ارتباط الشركس العميق بتراثهم الحربي النبيل.

من أبرز الأسلحة الشركسية:

  • الخنجر (قما): قطعة فنية بامتياز، يتميز بنصلٍ مزدوج حاد، وغمدٍ مزخرف غالباً بالنقوش المعدنية أو التطعيمات الفضية. وكان يُرتدى في المناسبات وحتى في الحياة اليومية، كجزء من اللباس التقليدي.
  • السيف (شاشكا): سيف منحني خفيف الوزن، استخدمه الفرسان الشركس ببراعة. يُعرف بمرونته وسرعة استخدامه، ويُعتبر أيقونة من أيقونات الفروسية القوقازية.
  • الرمح والقوس: استخدم الشركس القوس الطويل والرمح في المعارك والصيد، وغالباً ما كانت رؤوس الأسهم مصنوعة يدوياً، ومزخرفة بدقة.

وقد برع الشركس في صناعة هذه الأسلحة يدوياً، وكان لكل قطعة طابع فني مميز يربط بين الوظيفة الجمالية والعملية. ومع الزمن، تحوّلت هذه الأسلحة إلى رموز تراثية تُعرض في المنازل والمتاحف، وتُستخدم في العروض الفلكلورية والاحتفالات.

الأكلات التراثية: طعام يحمل الذاكرة

المطبخ الشركسي يُعدّ من أبرز مكونات الهوية الثقافية، إذ يجمع بين البساطة والغنى بالنكهات، ويعكس طبيعة الحياة الزراعية والريفية في القوقاز. استمرت هذه الأطباق في سوريا كوسيلة لصون الذوق الشعبي وتوارث التقاليد.

من أشهر الأكلات التراثية الشركسية:

  • شبسف (خبز شركسي): خبز رقيق يُخبز على الصاج، ويُقدَّم إلى جانب الأطباق الرئيسية، ويُعدّ جزءاً أساسيًا من الضيافة.
  • هالوج (Haluj): فطائر محشوة بالبطاطا أو الجبن، تُطهى على البخار أو تُخبز، وتُقدم غالبًا مع الزبدة أو اللبن.
  • تشيش فراي: طبق لحوم مشوية (غالباً لحم الضأن أو الدجاج)، متبل بالثوم والتوابل الطبيعية، ويُقدَّم مع الخبز والخضار.
  • أشيه (Aşıe): حساء كثيف يعتمد على مرق اللحم مع القمح أو الذرة، يُطبخ لساعات طويلة، ويُعد طعاماً تقليدياً في الشتاء.
  • اللبن المجفف والزبدة البلدية: التي تُحضّر منزلياً، وتُستخدم في الطهي وفي تقديم الأطعمة التقليدية.

وتحتل الولائم مكانة كبيرة في الثقافة الشركسية، حيث تُعتبر من وسائل التعبير عن الكرم والاحتفاء بالضيوف، ويُرافقها تقليدياً تقديم القهوة والشاي على الطريقة الخاصة.

الهوية الثقافية والاجتماعية

رغم مرور عقود على استقرارهم، واندماجهم التدريجي في النسيج السوري، حافظ الشركس على معالم بارزة من تراثهم الثقافي، الذي ظلّ متقدًا في الذاكرة والواقع اليومي.

اللغة

تُعد اللغة الشركسية (الأديغة) من أبرز الرموز الثقافية. وقد حرص الشركس على نقلها من جيل إلى آخر، رغم التحديات، من خلال التعليم العائلي والدورات المجتمعية، في محاولة لمقاومة خطر الاندثار.

اللباس التقليدي

يحافظ الشركس على أزيائهم التقليدية التي تعكس روح الأناقة والهوية، ومنها:

  • القباء: معطف طويل مزين بحوامل رصاص رمزية، يرتديه الرجال.
  • قلبق: طاقية للرجال.
  • أغطية الرأس الخاصة: مثل “الباشلق”.
  • أثواب النساء: المزخرفة بدقة، ذات أكمام طويلة وألوان متناسقة.

الرقصات والموسيقى

الرقص الفلكلوري الشركسي هو إحدى أعمدة الثقافة، ويُمارس في المناسبات الاجتماعية، ويُعرف بجماله ودقته وتناغمه بين الجنسين، خاصة رقصة القافقاز التي تتميز بخفة الحركة والرمزية العالية. ترافق هذه الرقصات موسيقى تقليدية تعزف على آلات كـالباربان والجمقو.

العادات الاجتماعية

  • طقوس الزواج: تتسم بطابع فلكلوري خاص، يشمل ما يُعرف بخطف العروس الرمزي، وعادات استقبال الضيوف، وتقاليد الخطبة.
  • نظام الاحترام: يُولي الشركس أهمية كبيرة لاحترام كبار السن، حيث يُمنح كبار العائلة دور محوري في اتخاذ القرار وتوجيه الأجيال.
  • الضيافة: تشكل ركيزة من ركائز التعامل الاجتماعي، وهي مقرونة بحسن الاستقبال والمشاركة الرمزية في الطعام والمناسبات.

الاحتفال والذاكرة الجماعية

  • إحياء ذكرى التهجير القسري: في 21 أيار/مايو من كل عام، تُقام فعاليات ثقافية لإحياء الذاكرة الجماعية، من خلال الرقصات الشعبية، والمعارض التراثية، والندوات.
  • الأعياد الدينية: يحتفل الشركس بالأعياد الإسلامية، مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، مع إدماج تقاليدهم الخاصة التي تضفي طابعاً ثقافياً مميزاً على هذه المناسبات.

الموروث الحرفي والمعيشي

كان الشركس مندمجين في الأنشطة الحرفية والزراعية، حيث عرفوا بالمهارة في:

  • زراعة القمح والشعير والبقوليات.
  • الصناعات اليدوية مثل الجلد، وصناعة السروج، والحدادة الدقيقة.
  • صناعة الأزياء التقليدية وتطريزها يدوياً.

دور الجمعيات الثقافية

أسس الشركس عدداً من الجمعيات الثقافية في المدن السورية، خصوصاً في دمشق، التي تهدف إلى:

  • تعليم اللغة الشركسية.
  • تنظيم مهرجانات ثقافية وموسيقية.
  • تقديم ورشات عمل في الرقص الشعبي، والحرف التقليدية.
  • توثيق الذاكرة الجماعية عبر الصور والمخطوطات والأغاني الشفوية.

التجذر في الأرض السورية

رغم التهجير، ورحلة الألم الطويلة، استطاع الشركس أن يزرعوا جذورهم في التربة السورية، ليس فقط كجماعة مهاجرة، بل كجزء من فسيفساء الهوية السورية. لقد بنوا بيوتاً، وغرسوا عاداتهم، وشاركوا جيرانهم الحياة اليومية، دون أن يتنازلوا عن خصوصيتهم الثقافية.

هم ليسوا فقط حُماة لذاكرة قوقازية ضائعة، بل بناة لهوية سورية متعددة الأصوات، حيث تتلاقى اللغة، والرقص، واللباس، والموسيقى، والتقاليد في مزيجٍ غنيٍ يعكس روح الانتماء والتسامح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *