المقدمة
يُعدّ سوق عزرا من أقدم وأبرز الأسواق الشعبية في مدينة القامشلي الواقعة شمال شرق سوريا، وهو فضاء تجاري واجتماعي ارتبط بنشأة المدينة نفسها، حيث مثّل منذ بداياته نقطة التقاء لمكونات سكانية متعددة من أكراد وعرب وسريان وأرمن ويهود. لا يقتصر دوره على النشاط الاقتصادي، بل يتجاوزه إلى كونه حاضنة للتواصل الاجتماعي ومسرحاً للتنوع الثقافي الذي شكّل هوية المدينة لعقود طويلة.
تهدف هذه الدراسة إلى توثيق سوق عزرا من منظور تراثي أكاديمي، من خلال تتبّع نشأته التاريخية، وتحولاته العمرانية، وأدواره الاجتماعية والثقافية، باعتباره جزءاً من التراث الحضاري الحي لمدينة القامشلي.
النشأة والتسمية
تعود بدايات سوق عزرا إلى ثلاثينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي بدأت فيها القامشلي بالتحوّل من مستوطنة صغيرة إلى مدينة قائمة البنية. نشأ السوق في البداية كممر ترابي تصطف على جانبيه دكاكين من الطين والخشب، تعود ملكيتها إلى تجار محليين قدموا من مناطق مجاورة مثل ماردين وأورفا، إضافة إلى سريان وأرمن نزحوا من طور عبدين وديار بكر نتيجة الصراعات العثمانية المتأخرة.
أما التسمية، فقد ارتبطت بشخصية محلية بارزة كان يُعرف باسم “عزرا“، وهو أحد أوائل التجار الذين نشطوا في السوق، الأمر الذي جعل اسمه يتماهى مع المكان نفسه. كما ارتبط السوق في الذاكرة الشعبية باسم آخر هو “سوق اليهود“، بسبب كثافة وجود المحلات اليهودية فيه خلال النصف الأول من القرن العشرين. ومع ذلك، لم يكن هذا الاسم دليلاً على ملكية حصرية، بل مؤشراً على مرحلة تاريخية من حياة القامشلي حين كان التنوع الديني والاثني جزءاً أساسياً من بنيتها الاجتماعية.
التحولات العمرانية
شهد سوق عزرا مراحل متتالية من التطور العمراني:
- الخمسينيات: تحوّلت معظم الدكاكين من الطين والخشب إلى الحجر والإسمنت، في إطار تحديث عمراني شمل وسط المدينة.
- السبعينيات: بلغ السوق ذروة نشاطه، مدفوعاً بازدهار الزراعة المحلية وتوسع تجارة الأقمشة والأدوات المنزلية.
- التسعينيات: دخلت المحلات الحديثة ومراكز البيع الكبرى إلى المشهد التجاري، ما أثّر نسبياً على السوق التقليدي، لكنه ظل محافظاً على طابعه الشعبي.
- ما بعد 2011: ومع تحوّل القامشلي إلى مركز اقتصادي وإداري رئيسي في شمال شرق سوريا، استعاد السوق جزءاً من نشاطه رغم الأوضاع الأمنية والاقتصادية الصعبة.
الخصائص المكانية والمعمارية
يتصف سوق عزرا بطابع معماري شعبي متواضع: أزقته ضيقة، وبعضها مغطى بسقوف خشبية أو صفائح معدنية تحمي من الشمس والمطر. المحلات متلاصقة وصغيرة الحجم، وما يزال العديد منها يحتفظ بواجهات خشبية وأبواب حديدية قديمة، فضلاً عن لافتات مكتوبة بخط اليد، مما يمنحه مظهراً أصيلاً يعكس ذاكرة المكان.
الأنشطة التجارية
يتوزع السوق على أقسام وظيفية متعددة:
- سوق الأقمشة والخياطة: وهو الأقدم والأكثر شهرة، حيث تقصده النساء من مختلف أحياء القامشلي لشراء الأقمشة وخياطة الملابس.
- محالّ العطارة والأعشاب: تعرض أعشاباً طبية وزيوتاً تقليدية تُستخدم في التداوي الشعبي.
- الأدوات المنزلية التقليدية: ومنها النحاسيات والسلال المصنوعة يدوياً والسجاد المحلي.
- البقالة والدكاكين الصغيرة: التي عُرفت منذ عقود بتوفير بضائع محلية ومستوردة من تركيا والعراق.
الوظيفة الاجتماعية والثقافية
شكّل السوق مركزاً للتفاعل الاجتماعي. اعتاد السكان الاجتماع فيه لتبادل الأخبار اليومية، أو احتساء الشاي في الزوايا الصغيرة، أو حتى لعقد صفقات تجارية بسيطة على الأرصفة. ومع حلول شهر رمضان، كان السوق يكتسب حيوية خاصة ليلاً، حيث تنتشر فيه محلات الحلويات والمكسرات والعصائر التقليدية، ما يحوّله إلى نقطة جذب موسمية ذات طابع ثقافي واجتماعي.
السوق كذاكرة جمعية
إن القيمة التراثية لسوق عزرا تكمن في كونه ذاكرة جماعية لمدينة القامشلي، إذ يعكس أنماط العيش والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية لسكانها. في هذا السوق، يتجاور الكردي الذي يبيع الأعشاب مع الأرمني الصائغ، والعربي التاجر بالعطور مع السرياني صاحب محل الأقمشة. هذا التنوع التجاري والاجتماعي هو انعكاس لروح القامشلي القديمة، التي قامت على التعايش والانفتاح رغم الاختلافات القومية والدينية.
الخاتمة
يمثل سوق عزرا نموذجاً للأسواق الشعبية السورية التي حافظت على دورها كجزء من التراث الحضري الحي. إن تاريخه الممتد منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وعلاقته بالتعددية السكانية للمدينة، وخصائصه المعمارية والاجتماعية، تجعل منه موقعاً جديراً بالحماية والتوثيق ضمن إطار التراث الثقافي غير المادي والمعالم العمرانية ذات القيمة التاريخية. الحفاظ على سوق عزرا هو حفاظ على جانب أساسي من هوية القامشلي وذاكرتها المشتركة، بما يحمله من دلالات إنسانية وثقافية لا تُقدّر بثمن.





اترك تعليقاً