رقصة يارخوشتا الأرمنية: طقس المحاربين وصوت الهوية الحية

رقصة يارخوشتا (Yarkhushta)  هي عرض فني أو أداء شعبي، و تجسيد حي لذاكرة جماعية أرمنية، ترقصها الجغرافيا قبل الأجساد، ويتردد صداها بين جبال ساونيك (Syunik) وجافاخك (Javakhk) جنوب القوقاز. إنها رقصة محاربين، تأسست في سياق الحرب، وبقيت حيّة في زمن السلام، شاهدة على قدرة التراث على مقاومة النسيان.

النشأة والسياق التاريخي:

تُصنَّف يارخوشتا ضمن الطقوس الحربية الأرمنية القديمة، وظهرت في القرون الوسطى ضمن المناطق الجبلية جنوب أرمينيا، حيث كان المحاربون الأرمن يؤدونها جماعيًا قبل المعارك، كجزء من الاستعداد القتالي والروحي.

تمتد أصولها إلى طقوس وثنية سابقة للمسيحية، حيث كانت تُستخدم كأداة لرفع المعنويات وشحن الطاقات النفسية والجسدية، وتحولت لاحقاً إلى عنصر من عناصر الهوية الجماعية، تُمثّل في كل حركة منها رسالة صامتة مفادها: نحن حاضرون، أقوياء، وجاهزون.”

ورغم محاولات الطمس خلال الحقبة السوفييتية، حين حُظر كثير من مظاهر الهوية القومية الأرمنية، بقيت يارخوشتا حيّة في القرى الجبلية، تُمارس في السر، محفوظة في الذاكرة الشفوية والاحتفالات المحلية.

وبعد استقلال أرمينيا مطلع التسعينيات، عادت الرقصة بقوة لتحتل مكانة مركزية في المشهد الثقافي الوطني، بوصفها رمزاً للكرامة الأرمنية، وأيقونة للفخر، والصمود، والانتماء.

تقنيات الأداء:

تتميّز يارخوشتا بطابعها القتالي والجماعي، وتُؤدى ضمن صفّين متقابلين من الرجال، غالبًا محاربين أو راقصين يرتدون لباساً تقليدياً مستوحى من الزي العسكري الأرمني القديم.

عناصر الأداء:

  • الوقفة الصلبة: يبدأ الأداء بوقوف الصفين في وضعية مستقيمة وجامدة، تُعبّر عن الثبات والإصرار.
  • النظر الثابت: يتبادل الراقصون النظرات الحادة، وكأنها مبارزات بصرية تعكس التحدي الداخلي.
  • التصفيق المتقابل (Slapping): يُعدّ التصفيق القوي باليدين نحو الخصم مركز الرقصة. هذه الحركة ليست مجرد إيقاع، بل رمز للقوة والتلاحم والانضباط.
  • الانحناءات والقفزات: تُؤدى بخطوات محسوبة، تتخللها قفزات مفاجئة تعبّر عن الجهوزية، وانحناءات سريعة تشير إلى خفّة المحارب.
  • الصمت في الصوت، الصراخ في الجسد: رغم قلة الكلمات، إلا أن كل إيماءة جسدية تُعتبر بمثابة صيحة تحدٍ غير منطوقة.

كل تفصيل في الرقصة يحمل دلالة رمزية:
“أنا لا أهاب، أنا لا أتراجع، أنا ابن هذه الأرض.”

الموسيقى المصاحبة:

ترافق الرقصة آلات موسيقية تقليدية تُستخدم عادة في المناسبات الحربية:

  • الزورنا (Zurna): آلة نفخ ذات صوت حاد ونفاذ، تُثير الحماسة وتحفّز الذهن والجسد.
  • الدوهول (Dohol): طبل أرمني تقليدي يُصدر إيقاعات قوية، تُشبه ضربات قلب محارب يستعد للقتال.

المزيج بين الزورنا والدوهول ينتج عنه تأثير سمعي وبصري متكامل، يُحدث حالة من الرهبة والاحترام لدى المشاهد، ويُعزز الإحساس بجلال الطقس ورمزية الموقف.

يارخوشتا في الحاضر: من طقس حربي إلى تعبير ثقافي عالمي

مع تحوّلات العصر، خرجت يارخوشتا من ساحات الحرب إلى خشبات المسارح، وأصبحت جزءاً من الفنون الأدائية الأرمنية الحديثة:

  • تُؤدى اليوم في المهرجانات الدولية والمحلية.
  • تُدرّس في المعاهد الفنية والجامعات كجزء من مناهج الفنون الشعبية.
  • تُنقل إلى الشتات الأرمني حول العالم عبر ورش عمل وجمعيات ثقافية.
  • مواقع التواصل الاجتماعي، مثل يوتيوب وتيك توك، أصبحت منصات جديدة لاستعراض يارخوشتا، حيث يؤديها شباب أرمن بحيوية وثقة، في فيديوهات تحصد ملايين المشاهدات.
  • تُستخدم موسيقاها في إنتاجات معاصرة: عروض رقص حديث، أفلام قصيرة، ومقاطع توثيقية.

كل ذلك يؤكّد أن يارخوشتا موروثاً حياً، وتراثاً نابضاً يعيش في الأجساد والقلوب، يتطوّر دون أن يفقد جوهره.

خاتمة: رقصة تقول “نحن هنا

في ظل محاولات الطمس أو نسيان الجذور، تؤدى يارخوشتا اليوم كتعبير جماعي عن البقاء، الكرامة، والصمود. إنها رقصة لا تتحدث فقط عن الماضي، بل تُعلن عن الحاضر وتُرسّخ للمستقبل. رقصة تقول: “نحن هنا، نرقص كما رقص أجدادنا،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *