ثقافة متجذرة وهوية تبحث عن البقاء
في قلب الجزيرة السورية وعلى أطراف سهول الفرات، يعيش مكوّن ثقافي قلّ الحديث عنه، لكنه ظلّ راسخاً في نسيج المنطقة: التركمان.
ورغم أن التركمان في شمال وشرق سوريا يشكّلون أقلية عددية مقارنةً بالمكونات الأخرى، فإن حضورهم التاريخي والثقافي أعمق مما يظنه الكثيرون.
من رأس العين ( ريش عينو – سري كانييه) وتل أبيض إلى القرى الممتدة في ريف الرقة والحسكة، حافظ التركمان على لغتهم، وعاداتهم، ومطبخهم، وذاكرتهم، في مواجهة قرن كامل من التغيرات السياسية والاجتماعية.
جذور الوجود التركماني في سوريا
الوجود التركماني في سوريا ليس طارئاً، بل يمتد لقرون، وجاء عبر موجتين رئيسيتين:
1. العهد السلجوقي والمملوكي (القرون 11–14):
جُلبت جماعات تركمانية من الأناضول ووسط آسيا إلى بلاد الشام، كجنود أو مستوطنين.
2. العهد العثماني (القرون 16–20):
تم توطين عائلات تركمانية على طول الحدود السورية التركية، لا سيما في مناطق مثل تل أبيض، رأس العين، سلوك، عين العرب ( كوباني)، جرابلس وغيرها.
لا تزال أسماء بعض القرى والمناطق تعكس هذا الإرث، مثل: حمام التركمان، تركمان بارح، تل أبيض.
الجغرافيا والانتشار
رغم الهجرات والتهجير، ما يزال للتركمان وجود في عدة مناطق:
• رأس العين ( ريش عينو – سري كانيه): كانت تعد مركزاً ثقافياً تركمانياً.
• تل أبيض : تضم قرى كاملة تتحدث باللهجة التركمانية.
• ريف الرقة الشمالي وريف الحسكة: قرى زراعية فيها عائلات تركمانية.
• منبج والباب: تجمعات تركمانية أصغر لكنها حاضرة.
اللغة: ذاكرة مهددة
التركمان يتحدثون لهجة قريبة جداً من التركية الأناضولية، مفهومة تماماً للناطقين بالتركية.
لكن:
• كثير من الشباب فقدوا الاتصال بها بسبب التعليم العربي الرسمي.
• كبار السن ما زالوا يستخدمونها في الحياة اليومية.
في الماضي، كانت تُكتب بالحروف العربية، ثم باللاتينية بعد 1920. واليوم يحاول الشباب إحياءها عبر:
• تعليم الأطفال بعض الكلمات والأغاني.
• إنشاء صفحات على وسائل التواصل لتوثيق اللهجة.
اللباس التقليدي
• للرجال: شروال فضفاض، قميص طويل، حزام قماشي أو جلدي.
• للنساء: أثواب مطرزة، ألوان زاهية، أوشحة مزينة يدوياً.
المرأة هنا ليست فقط متلقية للتراث، بل حافظة أساسية له، من خلال الأزياء المطرزة والأغاني الشعبية التي تنقلها للأجيال.
الرقص والموسيقى
• الرقص: يتميّز بخطوات سريعة وإيقاع جماعي، ويُعرف باسم تركومان هالاي.
• الموسيقى: تُرافقها آلات مثل الطنبور والدف، وتغني النساء أحيانًا الأغاني التراثية في الأعراس.
اليوم يحاول بعض الشباب دمج الأغنية التركمانية مع الإيقاعات الحديثة لإعطائها حضوراً معاصراً.
المطبخ التركماني
أطباق تحمل نكهة الأناضول والفرات:
• كبة برغل تركمانية تختلف في التوابل عن نظيرتها العربية والكردية.
• شوربة العدس، خبز التنور، والشاي الأسود القوي الذي يُقدّم طوال اليوم.
العادات والمناسبات
• الزواج: طقوس جماعية تبدأ من الخطبة حتى العرس، ترافقها الأغاني والرقصات.
• الضيافة: الشوربة والشاي أول ما يُقدّم للضيف.
• الأعياد: عيد الفطر والأضحى مناسبات كبرى، تُقام فيها الرقصات والزيارات الجماعية.
الدين والهوية
التركمان في سوريا مسلمون سنّة غالباً، ويتبعون تيارات دينية تقليدية معتدلة.
لكن هويتهم الأساسية ليست دينية بقدر ما هي قومية لغوية ثقافية.
التحديات المعاصرة
1. التهميش السياسي والثقافي لعقود طويلة.
2. خطر اندثار اللغة مع غياب التعليم الرسمي.
3. الهجرة والنزوح بعد الحروب، خاصة من تل أبيض ورأس العين بعد 2012.
4. ضعف التمثيل في المؤسسات المحلية والمدنية.
محاولات الحفاظ على التراث
رغم كل ذلك، يحاول التركمان الحفاظ على هويتهم من خلال:
• إنشاء فرق فلكلورية تركمانية صغيرة.
• تسجيل الأغاني والأمثال الشعبية باللهجة.
• مبادرات شبابية لتوثيق التراث الشفوي.
• مهرجانات صغيرة وصفحات على فيسبوك ويوتيوب للحفاظ على اللهجة.
ذاكرة تبحث عن البقاء
التركمان في شمال وشرق سوريا هم حملة ذاكرة متنقلة بين جغرافيا وتاريخ متشابك.
لغتهم، طعامهم، أغانيهم، وقصصهم، هي جزء لا يتجزأ من فسيفساء المنطقة الغنية.
وربما أصواتهم خافتة في الإعلام والسياسة، لكن في الأعراس، في خبز التنور، وفي دفء الشاي، تحيا ثقافتهم.



اترك تعليقاً