الإيزيديون: تاريخ عريق وتراث روحاني متجذر في قلب الشرق الأوسط

هذه المادة تأتي ضمن مشروع حكايات عتيقة الذي تنفذه منظمة تدمرتو بدعم من ديموس

الإيزيديون هم مجتمع ديني عريق ينتمي بشكل أساسي إلى منطقة شمال العراق وسوريا، مع تواجد في أجزاء من تركيا وإيران، بالإضافة إلى الشتات في أوروبا وجنوب القوقاز. تُعتبر ديانتهم واحدة من أقدم الديانات التوحيدية في المنطقة، وتعود جذورها إلى العصور القديمة، حيث تحتوي على عناصر روحية وفلسفية متشابكة مع معتقدات وتقاليد سومرية، ميتانية، بابلية، وزرادشتية. ما يميز الإيزيدية هو جمعها بين عناصر الطبيعة، التوحيد، والروحانيات التي تجعلها ديانة فريدة من نوعها، تجمع بين عبادة الإله الواحد والاحترام العميق للطبيعة والخلق.

أصل التسمية وأصول العقيدة

حول أصل تسمية “الإيزيدية”، ثمة عدة نظريات متداولة، لكن الأكثر قبولًا بين الإيزيديين أنفسهم ينفي ارتباط اسمهم بالخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وهو ربط سياسي غير دقيق تاريخياً ولا يعكس هويتهم. يُعتقد أن الاسم مشتق من الكلمة الفارسية “يزدان” التي تعني “الإله”، أو ربما من تعبيرات قديمة تعكس جوهر الدين.

ديانة الإيزيديين قائمة على التوحيد، حيث يؤمنون بإله واحد خلق الكون، لكنه أوكله إلى سبعة ملائكة لمساعدته في إدارة شؤون العالم. أهم هؤلاء الملائكة هو طاووس ملك أو ملاك الطاووس، الذي يُعتبر رمز الحكمة والنور، ويجسد العلاقة بين الخالق والمخلوقات، ويحظى بمكانة مركزية في طقوسهم ومعتقداتهم.

اللغة والهوية الثقافية

الإيزيديون يتحدثون اللغة الكردية بلهجتها الكرمانجية، التي تمثل عنصراً أساسياً من هويتهم اليومية والثقافية. أما اللغة الدينية المستخدمة في الطقوس فهي مزيج من الكردية القديمة مع بعض العناصر من العربية والفارسية، مما يعكس تاريخهم وتداخلهم الثقافي مع شعوب المنطقة عبر القرون.

الإيزيديون يعرّفون أنفسهم كمجتمع ديني له خصوصيته وعادات مميزة، تحكمها قواعد اجتماعية وروحية دقيقة تحفظ نقاء الدين وتماسك المجتمع.

الكتب والنصوص المقدسة

الديانة الإيزيدية ديانة شفوية في الأساس، حيث تنتقل تعاليمها عبر الأجيال من خلال الشعر الديني والروايات، ويسمى هؤلاء الشعراء بـ”القوال”، وهم حراس التقاليد والموروث الديني. ومن بين الكتب التي دُوّنت لاحقًا والتي أصبحت مرجعًا للإيزيديين:

•        مصحف رش (الكتاب الأسود): نص يحتوي على قواعد دينية وتعاليم روحية.

•        كتاب الجلوة: كلمة تعني “الكشف” أو “الظهور”، ويتضمن قصصاً وروايات عن تاريخ الإيزيديين ومعتقداتهم.

يُعتبر طاووس ملك رمزاً رئيسياً لدى الإيزيديين، وهو ملاك الطاووس الذي يظهر بريش جميل ومتعدد الألوان، ويمثل الحكمة والنور، ويعكس العلاقة بين الإله والكون. كما يلعب النور والشمس دوراً جوهرياً في عبادة الإيزيديين، فهم يصلّون باتجاه الشمس، ويرونها رمزاً للحياة والنقاء والبركة.

العبادات عند الإيزيديين غير ملزمة بعدد معين من الصلوات، وغالباً ما تُقام الصلاة عند الفجر، وتُعتبر لحظات تواصل روحي مباشرة مع الله والملائكة. أما الصوم، فلا يوجد صوم إجباري في الديانة إلا في مناسبات خاصة مثل “صوم ئيزي” الذي يمتد لثلاثة أيام ويعد صوماً اختيارياً يقوم به المؤمنون كنوع من التعبد والتقرب إلى الله.

المعابد والأماكن المقدسة

الهوية الإيزيدية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتقاليد والعادات التي تحافظ على نقاء الدين والهوية. من أبرز هذه التقاليد:

•        منع الزواج المختلط: يُحافظ الإيزيديون على نقاء الطائفة من خلال منع الزواج مع غير الإيزيديين، إذ يُعتبر الزواج المختلط من المحرمات التي قد تؤدي إلى الطرد من المجتمع.

•        الزعامات الروحية: كل عائلة أو عشيرة يتبعها “بير” أو “شيخ”، وهو رمز روحي واجتماعي يمثل حامي التقاليد والقيم، ويقود العائلة في الأمور الدينية والاجتماعية.

•        الزواج والاحتفالات: تتميز الاحتفالات الإيزيدية بالطقوس الخاصة التي تشمل الأغاني الدينية، الرقصات التقليدية، وقراءة الأشعار الروحية التي تحكي تاريخهم وتعاليمهم.

الأعياد والمناسبات الدينية

الإيزيديون يحتفلون بعدة أعياد ومناسبات تعكس معتقداتهم الروحية وثقافتهم الاجتماعية:

•        عيد رأس السنة الإيزيدية (الأربعاء الأحمر): يحتفل به في أبريل، ويُعتبر من أقدم الأعياد التي ترمز للخلق وتجدد الحياة والطبيعة. يستمر هذا العيد بيوم مليء بالطقوس والاحتفالات التي تعبر عن بداية دورة جديدة للحياة.

•        عيد الجماعية: يقام في معبد لالش لمدة سبعة أيام، وهو أكبر تجمع ديني للمجتمع الإيزيدي، حيث تتلاقى العائلات والعشائر لتجديد العهود الروحية والاجتماعية.

•        صوم ئيزي: وهو صوم اختياري يمتد لثلاثة أيام، يُمارس كنوع من التعبد والتقرب إلى الله، وغالبًا ما يُصادف في فترات محددة من السنة.

تاريخ الإيزيديين والتحديات التي واجهوها

الإيزيديون مروا عبر تاريخهم الطويل بعدة مراحل من الاضطهادات والفتن، فقد تعرضوا لأكثر من 70 حملة إبادة تُعرف محليًا بـ”فرمانات”، حيث كانت المجتمعات المحيطة ترفض معتقداتهم وتهاجمهم بشكل متكرر.

أبرز وأفظع هذه المحن كان في عام 2014 حين شنت تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هجوماً دموياً على منطقة سنجار في العراق، ما أدى إلى مقتل آلاف الإيزيديين، واختطاف آلاف النساء والأطفال، وجرى تدمير قرى بأكملها، بالإضافة إلى تشريد عشرات الآلاف. هذا الهجوم ترك أثرًا نفسيًا واجتماعيًا عميقًا على المجتمع الإيزيدي، لكنه في الوقت ذاته عزز من وحدتهم ورغبتهم في الحفاظ على تراثهم.

في سوريا، يتركز وجود الإيزيديين في مناطق شمال شرق البلاد، خصوصاً في الحسكة وعفرين وبعض القرى في القامشلي وعامودا، لكن النزاعات التي بدأت عام 2011 أدت إلى تهميشهم وتهجيرهم من مناطقهم، مما زاد من هشاشة وضعهم.

الشتات الإيزيدي

بسبب موجات الاضطهاد المتكررة، شهدت أعداد كبيرة من الإيزيديين هجرة إلى دول مثل ألمانيا، السويد، فرنسا، وأرمينيا، حيث نشأت مجتمعات إيزيدية مهمة. يلعب الشتات دورًا حيويًا في توثيق التراث والدفاع عن حقوق الإيزيديين، كما يساهم في نشر الوعي حول معاناتهم وقضيتهم العالمية.

خاتمة

الإيزيديون، رغم صغر عددهم، يمثلون إرثاً ثقافياً وروحياً عميقاً، وهم نموذج حي للمجتمعات الأصلية التي حافظت على تراثها وهويتها رغم أعتى المحن. ديانتهم الفريدة التي تدمج بين التوحيد والرموز الطبيعية، وعاداتهم الاجتماعية الصارمة، تجعل منهم علامة مميزة في فسيفساء التنوع الديني والثقافي في الشرق الأوسط.

وجودهم في سوريا والعراق، وارتباطهم الوثيق بأرضهم وتراثهم، يبرزان كدليل على قدرة المجتمعات على الصمود في وجه الصراعات، وعلى أهمية احترام التنوع والعيش المشترك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *